إن سياسات ترامب على المدى الطويل والمتوسط ستتسبب في الهزيمة الحاسمة لأمريكا وستزيد من أزمة هذا البلد وستخلق العديد من التحديات لحكومة هذا البلد ومكانته العالمية.
وبحسب ما نقلته وكالة مهر للأنباء، فإن العديد من المحافظين الجدد الأميركيين يعتبرون الرئيس الأميركي دونالد ترامب بطل إنقاذ هذا البلد في الوضع الصعب الحالي، ويعتقدون أن قراراته وموافقاته ضرورية "لإحياء عظمة أميركا". ويرى هؤلاء أن أمريكا تحتاج إلى شخصية حاسمة مثل ترامب لتكون جاهزة لتحمل نتائج وعواقب قراراته.
لكن النقطة التي تظهر نفسها في النظرة الواقعية للتطورات التي تشهدها أمريكا والتحديات التي تواجه هذا البلد هي هل يستطيع ترامب أن يلعب دور منقذ أمريكا أم أنه سيعجل بانهيار هذا البلد داخليا وخارجيا؟
الأزمات الأمريكية
تتضمن عملية الحياة السياسية والاجتماعية في أمريكا سلسلة من الأزمات الخطيرة، من بينها انتشار الصراعات السياسية والتنافس المستمر بين أقصى اليمين واليسار، واتساع الفجوة الاقتصادية وزيادة الدين الحكومي، وتنامي المشاكل المتعلقة بالهجرة واللجوء، وزيادة العنصرية وما يترتب عليها من تحديات اجتماعية، وانتشار عجز الطبقات الوسطى في المجتمع عن توفير الخدمات الصحية والتعليمية وشراء السكن، فضلا عن تزايد أعمال العنف والجرائم المسلحة في هذا البلد.
أزمة الهوية
وتابع "محسن محمد صالح" الكاتب والمحلل الفلسطيني ومدير مركز دراسات الزيتونة هذا المقال بالإشارة إلى بعض جوانب الأزمة في أمريكا، وكتب أن البيض الأمريكيين، وخاصة المسيحيين البروتستانت، الذين يعتبرون أنفسهم العنصر الأساسي في المجتمع الأمريكي والعمود الفقري لحركة هذا البلد، لديهم انطباع بأن البنية الأمريكية مهددة وأنهم يفقدون الأغلبية في المجتمع الأمريكي وأعدادهم آخذة في الانخفاض. على سبيل المثال، في عام 1970، كان المسيحيون الأمريكيون يشكلون حوالي 85% من إجمالي السكان الذين يعيشون في هذا البلد، وكان المسيحيون البيض يشكلون 80% من المجتمع الأمريكي، لكن في السنوات الأخيرة، انخفضت هذه النسبة إلى 62-65%، ومن المتوقع أن تصل إلى أقل من 50% في عام 2050. كما وصل عدد المسيحيين البروتستانت إلى 40٪ في عام 2025.
وبهذه الطريقة، يعتقد المحافظون الجدد أن أزمة الهوية تتشكل في أمريكا وأن ضمان استمرار التفوق الأبيض في خطر.
الأزمة الاقتصادية
ويشكل اتساع نطاق الأزمة الاقتصادية تحديا كبيرا آخر أمام صناع القرار الأميركيين. وقد تجاوز إجمالي الدين العام للحكومة الأمريكية 36 تريليون و220 مليار دولار، أي أكثر من 125% من إجمالي الناتج القومي للولايات المتحدة. كما يشكل هذا المبلغ من الدين العام تحديًا لقدرة الحكومة على تمويل البرامج والخدمات التنفيذية في المجالات الحيوية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية والقضايا العسكرية.
الفجوة الطبقية
وبالإضافة إلى ذلك، فإن أزمة الفجوة الطبقية في المجتمع الأمريكي تتزايد يوما بعد يوم. ويملك واحد في المئة من المقيمين الأميركيين نحو ثلث إجمالي الثروة في هذا البلد، و10 في المئة من الأميركيين يملكون 70 في المئة من ثروة البلاد. وفي الوقت نفسه، يمتلك النصف الفقير من المجتمع الأمريكي أقل من 3% من الثروة الأمريكية. وفي الوقت الحالي، يعيش 35 مليون أمريكي تحت خط الفقر، مما يهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع الأمريكي.
زيادة في الجريمة
تعد أزمة الجريمة تحديًا كبيرًا آخر يواجه الحكومة الحالية في هذا البلد. وفي عام 2020، تم ارتكاب أكثر من 21.570 جريمة في أمريكا، وهو من أعلى المعدلات في العالم كله. أمريكا لديها أكبر عدد من السجون والسجناء مقارنة بالعالم أجمع، ويوجد في السجون الأمريكية حوالي 2 مليون شخص، وهو ما يشكل 25% من إجمالي السجناء في العالم.
التناقضات الاجتماعية
والتناقضات الاجتماعية أزمة أخرى في المجتمع الأمريكي، فمثلا عدد السجناء الأفارقة يفوق عدد السجناء البيض بأربعة أضعاف، وهي مؤشرات مثيرة للقلق حول التناقضات الطبقية والاجتماعية واضطهاد السود في أمريكا.
صعود الصين في السلطة
لقد أصبحت القوة العسكرية والتكنولوجية المتنامية للصين أحد المصادر الرئيسية لقلق صناع القرار الأميركيين. ومنذ عام 2009، تجاوز حجم صادرات الصين حجم الصادرات الأمريكية، وسيصل هذا الرقم إلى ضعف حجم الصادرات الأمريكية في عام 2022. (3.6 تريليون دولار مقابل 1.83 تريليون دولار) ومن المتوقع أن يتساوى الناتج القومي الإجمالي للصين والولايات المتحدة في عام 2034، رغم أن هذا التوازن من حيث القوة الشرائية كان لصالح الصينيين منذ عقود، وتتجاوز قوتهم الشرائية حاليا 6 تريليون دولار.
وزادت الصين ميزانيتها العسكرية 8 مرات على مدى السنوات العشرين الماضية، لكن هذا المبلغ في الولايات المتحدة زاد بنسبة 65% فقط خلال الفترة نفسها. تعد الصواريخ النووية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت الصينية حاليًا أحد أخطر التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة. بالإضافة إلى أن الصينيين تفوقوا على الأمريكيين في عدد براءات الاختراع، وكان هذا الرقم في عام 2023 للصينيين نحو 921 ألفاً مقابل 315 ألفاً للأمريكيين.
ويشكل تزايد قوة المجموعات التابعة للصين مثل منظمة البريكس وزيادة ثقلها الدولي مقابل تراجع مكانة واشنطن العالمية مصدر قلق آخر للولايات المتحدة.
سياسات ترامب
وتضيف الجزيرة في تقريرها أن دونالد ترامب والفريق المرافق له يرون أنه من أجل إحياء الهيمنة الأمريكية وتجاوز الأزمة لا بد من اتباع السياسات التالية:
1. إنهاء التآكل في النظامين الإداري والتنفيذي الأمريكي وخفض التكاليف.
2. دعم الأغلبية البيضاء، وخاصة البروتستانتية، ومعارضة الهجرة واللجوء إلى أمريكا.
3. دعم الأسرة والقيم التقليدية في المجتمع.
4. وضع القوانين التي تناسب مصالح الأغلبية.
5. اعتماد سياسة خارجية تقوم على القومية الداخلية وتعطي الأولوية لسلامة أمريكا الداخلية. وتتجاهل هذه السياسة المنظمات الدولية وتتناقض مع العولمة والتجارة الحرة، ولا تقبل الالتزامات العسكرية الأميركية تجاه الأجانب.
6. ويرى فريق ترامب أن حكام العالم يجب أن يكونوا أقوياء وهؤلاء هم الذين يتنافسون ويتفاوضون لرسم مستقبل العالم وعلى الفاعلين الصغار أن يتكيفوا في إطار المساحة الممنوحة لهم. وفي هذا الصدد، يتجاهل فريق ترامب القيم والأسس الأخلاقية والقوانين الدولية. وفي هذا الصدد، طرحوا سياسة التهجير القسري للفلسطينيين، رغم أنها تتعارض مع المصالح الوطنية لحلفائهم في مصر والأردن والسعودية.
7. ويحاول ترامب وفريقه تقليص نفقات أمريكا الدولية بأبعاد سياسية وعسكرية واقتصادية وإجبار حلفائهم وأصدقائهم على دفع نفقات مختلفة بحجة تلقي الخدمات. إنهم يستخدمون أدوات الضغط الموجودة في هذا الاتجاه ويريدون الحصول على المزيد من الدخل بأقل التكاليف لأنفسهم. أوكرانيا هي مثال على هذه السياسة.
هل تنجح سياسات ترامب؟
ويرى ترامب تحديات كثيرة في تحقيق أهدافه، ويبدو أنه في ظل المعلومات المتوفرة ليس أمامه فرصة كبيرة لنجاح سياساته، إلا أنه ومؤيدوه يعتقدون أنه يجب منح ترامب فرصة المخاطرة.
ويبدو أن سياسات ترامب ستتسبب في فشل واشنطن الاستراتيجي على المدى المتوسط والطويل. ويمكن حصر مظاهر اتساع الأزمة الداخلية الأمريكية في المستقبل في الحالات التالية:
1. إن طريقة ترامب في إدارة العالم هي بطريقة تنهي النظام العالمي ودور المؤسسات الدولية وتدمر كل أسس القوانين الدولية أو الأخلاقيات في العلاقات العالمية. ورغم أن هذا الحدث يمكن أن يخلق هامشاً جيداً للمناورة لترامب، إلا أنه سيدفع القوى الأخرى إلى التنافس مع أمريكا ومحاولة تأمين مصالحها الخاصة. وفي هذا الوضع، لن تتمكن أميركا من لعب دور أساسي في النظام الذي تريد أن تحكم العالم.
2. السياسات الأمريكية قد تدفع حلفاء وأصدقاء هذا البلد إلى عدم حاجتهم لها من أمريكا وإقامة علاقات دولية أقوى مع القوى الصاعدة مثل الصين والبحث عن مصادر جديدة للأسلحة. وعلى المدى الطويل والمتوسط، سيؤدي ذلك إلى تقليل النفوذ العسكري والاقتصادي والسياسي للولايات المتحدة، كما أنه سيتحدى قوة الابتزاز المالي والسياسي لهذا البلد وتأثيره على المجتمع الدولي.
3. إن سياسات ترامب - شئنا أم أبينا - تخلق أفضل فرصة للصين وغيرها من القوى العظمى لملء الفراغ في هذا البلد وتحسين فرصها التنافسية الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
4. هذه السياسات تقلل من قدرة أمريكا كأكبر دولة على جذب الاستثمار في العالم، لأن سلوك إدارة ترامب يحرم هذا البلد من الثقة الدولية.
5. وفي ظل تنفيذ السياسات الأمريكية في القيود المفروضة على استيراد البضائع، ستقوم حكومات أخرى أيضًا بالانتقام وزيادة الضرائب على السلع المستوردة من الولايات المتحدة، الأمر الذي سيعيق المزايا التنافسية للولايات المتحدة.
6. ستحاول العديد من الدول، مثل الدول الأعضاء في مجموعة البريكس، تقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي في التبادلات الدولية. وستكون هذه القضية أكثر فعالية عندما ترغب الحكومات الأوروبية أو حكومات النفط في تبني مثل هذا السلوك.
7. وسوف تؤدي سياسات ترامب الداخلية إلى تدمير أو إضعاف البنية التحتية الإدارية للبلاد، وسوف تدفع بعض الولايات إلى محاولة الانفصال عن الحكومة المركزية، حتى على المدى الطويل. إن التذمر من هذه الجهود واضح في كاليفورنيا وتكساس.
8. إن سياسات ترامب المتعلقة بالتفوق الأبيض والبروتستانتية ستؤدي إلى نشر الصراعات الداخلية والمشاكل الاجتماعية والتباعد الطبقي وزيادة الالتهاب بين الأقليات.
خاتمة
باختصار يمكن القول إن سياسات ترامب على المدى الطويل والمتوسط ستتسبب في فشل أمريكا الأكيد وستزيد من أزمة هذا البلد وستخلق العديد من التحديات لحكومة هذا البلد ومكانته العالمية وستتسبب أيضًا في الانهيار الاجتماعي للمجتمع الأمريكي. تحاول العديد من دول العالم حالياً كبح جماح انفعالات ترامب ولا تريد مواجهته بشكل مباشر، وستواجهه عندما تراه يدفع ثمن سياساته.
ارسال تعليق